فصل: المجزئ من الكسوة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد وكفاية المقتصد **


 كتاب الأيمان

-وهذا الكتاب ينقسم أولا إلى جملتين‏:‏ الجملة الأولى‏:‏ في معرفة ضروب الأيمان وأحكامها‏.‏ والجملة الثانية‏:‏ في معرفة الأشياء الرافعة للأيمان اللازمة وأحكامها‏.‏

‏(‏ الجملة الأولى‏)‏ وهذه الجملة فيها ثلاثة فصول‏:‏ الفصل الأول‏:‏ في معرفة الأيمان المباحة وتمييزها من غير المباحة‏.‏ الثاني‏:‏ في معرفة الأيمان اللغوية والمنعقدة‏.‏ الثالث‏:‏ في معرفة الأيمان التي ترفعها الكفارة والتي لا ترفعها‏.‏

 الفصل الأول في معرفة الأيمان المباحة وتمييزها من غيرها‏.‏

-واتفق الجمهور على أن الأشياء منها ما يجوز في الشرع أن يقسم به، ومنها ما لا يجوز أن يقسم به‏.‏ واختلفوا أي الأشياء التي هي بهذه الصفة؛ فقال قوم‏:‏ إن الحلف المباح في الشرع هو الحلف بالله، وأن الحالف بغير الله عاص؛ وقال قوم‏:‏ بل يجوز الحلف بكل معظم بالشرع؛ والذين قالوا إن الأيمان المباحة هي الأيمان بالله اتفقوا على إباحة الأيمان التي بأسمائه، واختلفوا في الأيمان التي بصفاته وأفعاله‏.‏ وسبب اختلافهم في الحلف بغير الله من الأشياء المعظمة بالشرع معارضة ظاهر الكتاب في ذلك للأثر، وذلك أن الله قد أقسم في الكتاب بأشياء كثيرة مثل قوله ‏{‏والسماء والطارق‏}‏ وقوله ‏{‏والنجم إذا هوى‏}‏ إلى غير ذلك من الأقسام الواردة في القرآن‏.‏ وثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ‏"‏إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت‏"‏ فمن جمع بين الأثر والكتاب بأن قال إن الأشياء الواردة في الكتاب المقسوم بها فيها محذوف وهو الله تبارك وتعالى، وأن التقدير‏:‏ ورب النجم، ورب السماء قال‏:‏ الأيمان المباحة هي الحلف بالله فقط؛ ومن جمع بينهما بأن المقصود بالحديث إنما هو أن لا يعظم من لم يعظم الشرع بدليل قوله فيه ‏"‏إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم‏"‏ وأن هذا من باب الخاص أريد به العام أجاز الحلف بكل معظم في الشرع‏.‏ فإذا سبب اختلافهم هو اختلافهم في بناء الآي والحديث‏.‏ وأما من منع الحلف بصفات الله وأفعاله فضعيف‏.‏ وسبب اختلافهم هو هل يقتصر بالحديث على ما جاء من تعليق الحكم فيه بالاسم فقط، أو يعدى إلى الصفات والأفعال، لكن تعليق الحكم في الحديث بالاسم فقط جمود كثير، وهو أشبه بمذهب أهل الظاهر وإن كان مرويا في المذهب حكاه اللخمي عن محمد بن المواز‏.‏ وشذت فرقة فمنعت اليمين بالله عز وجل، والحديث نص في مخالفة هذا المذهب‏.‏

 الفصل الثاني في معرفة الأيمان اللغوية والمنقعدة‏.‏

-واتفقوا أيضا على أن الأيمان منها لغو ومنها منعقدة لقوله تعالى ‏{‏لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان‏}‏ واختلفوا فيما هي اللغو‏؟‏ فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها اليمين على الشيء يظن الرجل أنه على يقين منه فيخرج الشيء على خلاف ما حلف عليه‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لغو اليمين ما لم تنعقد عليه النية مثل ما جرت به العادة من قول الرجل في أثناء المخاطبة لا والله لا بالله مما يجري على الألسنة بالعادة من غير أن يعتقد لزومه، وهذا القول رواه مالك في الموطأ عن عائشة، والقول الأول مروي عن الحسن بن أبي الحسن وقتادة ومجاهد وإبراهيم النخعي‏.‏ وفيه قول ثالث، وهو أن يحلف الرجل وهو غضبان، وبه قال إسماعيل القاضي من أصحاب مالك‏.‏ وفيه قول رابع، وهو الحلف على المعصية وروي عن ابن عباس‏.‏ وفيه قول خامس، وهو أن يحلف الرجل على أن لا يأكل شيئا مباحا له بالشرع‏.‏ والسبب في اختلافهم في ذلك هو الاشتراك الذي في اسم اللغو، وذلك أن اللغو قد يكون الكلام الباطل مثل قوله تعالى ‏{‏والغوا فيه لعلكم تغلبون‏}‏ وقد يكون الكلام الذي لا تنعقد عليه نية المتكلم به، ويدل على أن اللغو في الآية هو هذا أن هذه اليمين هي ضد اليمين المنعقدة وهي المؤكدة، فوجب أن يكون الحكم المضاد للشيء المضاد‏.‏ والذين قالوا إن اللغو هو الحلف في إغلاق أو الحلف على ما لا يوجب الشرع فيه شيئا بحسب ما يعتقد في ذلك قوم، فإنما ذهبوا إلى أن اللغو ههنا يدل على معنى عرفي في الشرع وهي الأيمان التي يبين الشرع في مواضع أخر سقوط حكمها مثل ما روي أنه‏:‏ ‏"‏لا طلاق في إغلاق‏"‏ وما أشبه ذلك، لكن الأظهر هما القولان الأولان‏:‏ أعني قول مالك والشافعي‏.‏

 الفصل الثالث في معرفة الأيمان التي ترفعها الكفارة والتي لا ترفعها‏.‏ وهذا الفصل أربع مسائل‏:‏

-‏(‏ المسألة الأولى‏)‏ اختلفوا في الأيمان بالله المنعقدة هل يرفع جميعها الكفارة سواء كان حلفا على شيء ماض أنه كان فلم يكن وهي التي تعرف باليمين الغموس، وذلك إذا تعمد الكذب، أو على شيء مستقبل أنه يكون من قبل الحالف أو من قبل من هو بسببه فلم يكن، فقال الجمهور‏:‏ ليس في اليمين الغموس كفارة، وإنما الكفارة في الأيمان التي تكون في المستقبل إذا خالف اليمين الحالف، وممن قال بهذا القول مالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل‏.‏ وقال الشافعي وجماعة‏:‏ يجب فيها الكفارة أي تسقط الكفارة الإثم فيها كما تسقطه في غير الغموس‏.‏ وسبب اختلافهم معارضة عموم الكتاب للأثر، وذلك أن قوله تعالى ‏{‏ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين‏}‏ الآية توجب أن يكون في اليمين الغموس كفارة لكونها من الأيمان المنعقدة، وقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار‏"‏ يوجب أن اليمين الغموس ليس فيها كفارة، ولكن للشافعي أن يستثني من الأيمان الغموس ما لا يقتطع بها حق الغير، وهو الذي ورد فيه النص، أو يقول‏:‏ إن الأيمان التي يقتطع بها حق الغير قد جمعت الظلم والحنث، فوجب ألا تكون الكفارة تهدم الأمرين جميعا، أو ليس يمكن فيها أن تهدم الحنث دون الظلم، لأن رفع الحنث بالكفارة إنما هو من باب التوبة، وليس تتبعض التوبة في الذنب الواحد بعينه، فإن تاب ورد المظلمة وكفر سقط عنه جميع الإثم‏.‏

-‏(‏ المسألة الثانية‏)‏ واختلف العلماء فيمن قال‏:‏ أنا كافر بالله أو مشرك بالله أو يهودي أو نصراني إن فعلت كذا ثم يفعل ذلك هل عليه كفارة أم لا‏؟‏ فقال مالك والشافعي‏:‏ ليس عليه كفارة ولا هذه يمين؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ هي يمين وعليه فيها الكفارة إذا خالف اليمين وهو قول أحمد بن حنبل أيضا‏.‏ وسبب اختلافهم هو اختلافهم في هل يجوز اليمين بكل ماله حرمة أم ليس يجوز إلا بالله فقط‏؟‏ ثم إن وقعت فهل تنعقد أم لا‏؟‏ فمن رأى أن الأيمان المنعقدة‏:‏ أعني التي هي بصيغ القسم إنما هي الأيمان الواقعة بالله عز وجل وبأسمائه قال‏:‏ لا كفارة فيها إذ ليست بيمين؛ ومن رأى أن الأيمان تنعقد بكل ما عظم الشرع حرمته قال‏:‏ فيها الكفارة، لأن الحلف بالتعظيم كالحلف بترك التعظيم، وذلك أنه كما يجب التعظيم يجب أن لا يترك التعظيم، فكما أن من حلف بوجوب حق الله عليه لزمه كذلك من حلف بترك وجوبه لزمه‏.‏

-‏(‏ المسألة الثالثة‏)‏ واتفق الجمهور في الأيمان التي ليست أقساما بشيء وإنما تخرج مخرج الإلزام الواقع بشرط من الشروط، مثل أن يقول القائل‏:‏ فإن فعلت كذا فعلي مشي إلى بيت الله، أو إن فعلت كذا وكذا فغلامي حر أو امرأتي طالق أنها تلزم في القرب، وفيما إذا التزمه الإنسان لزمه بالشرع مثل الطلاق والعتق‏.‏ واختلفوا هل فيها كفارة أم لا‏؟‏ فذهب مالك إلى أن لا كفارة فيها، وأنه إن لم يفعل ما حلف عليه أثم ولا بد؛ وذهب الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم إلى أن هذا الجنس من الأيمان فيها الكفارة إلا الطلاق والعتق؛ وقال أبو ثور‏:‏ يكفر من حلف بالعتق، وقول الشافعي مروي عن عائشة‏.‏ وسبب اختلافهم هل هي يمين أو نذر، فمن قال إنها يمين أوجب فيها الكفارة لدخولها تحت عموم قوله تعالى ‏{‏فكفارته إطعام عشرة مساكين‏}‏ الآية‏.‏ ومن قال إنها من جنس النذر‏:‏ أي من جنس الأشياء التي نص عليها الشرع على أنه إذا ألتزمها الإنسان لزمته قال‏:‏ لا كفارة فيها لكن يعسر هذا على المالكية لتسميتهم إياها إيمانا، لكن لعلهم إنما سموها أيمانا على طريق التجوز والتوسع‏.‏ والحق أنه ليس يجب أن تسمى بحسب الدلالة اللغوية أيمانا، فإن الأيمان في لغة العرب لها صيغ مخصوصة، وإنما يقع اليمين بالأشياء التي تعظم وليست صيغة الشرط هي صيغة اليمين، فأما هل تسمى أيمانا بالعرف الشرعي وهل حكمها حكم الأيمان‏؟‏ ففيه نظر، وذلك أنه قد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال ‏"‏كفارة النذر كفارة يمين‏"‏ وقال تعالى ‏{‏لم تحرم ما أحل الله لك‏}‏ إلى قوله ‏{‏قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم‏}‏ فظاهر هذا أنه قد سمي بالشرع القول الذي مخرجه مخرج الشرط أو مخرج الإلزام دون شرط ولا يمين، فيجب أن تحمل على ذلك جميع الأقاويل التي تجري هذا المجرى إلا ما خصصه الإجماع من ذلك مثل الطلاق، فظاهر الحديث يعطي أن النذر ليس بيمين وأن حكمه حكم اليمين؛ وذهب داود وأهل الظاهر إلى أنه ليس يلزم من مثل هذه الأقاويل، أعني الخارجة مخرج الشرط إلا ما ألزمه الإجماع من ذلك وذلك أنها ليست بنذور فيلزم فيها النذر، ولا بأيمان فترفعها الكفارة، فلم يوجبوا على من قال‏:‏ إن فعلت كذا وكذا فعلي المشي إلى بيت الله مشيا ولا كفارة، بخلاف ما لو قال‏:‏ علي المشي إلى بيت الله لأن هذا نذر باتفاق، وقد قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصيه‏"‏ فسبب هذا الخلاف في هذه الأقاويل التي تخرج مخرج الشرط هو هل هي أيمان أو نذور‏؟‏ أو ليست أيمانا ولا نذورا‏؟‏ فتأمل هذا فإنه بين إن شاء الله تعالى‏.‏

-‏(‏ المسألة الرابعة‏)‏ اختلفوا في قول القائل‏:‏ أقسم أو أشهد إن كان كذا وكذا هل هو يمين أم لا‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏:‏ فقيل إنه ليس بيمين، وهو أحد قولي الشافعي؛ وقيل إنها أيمان ضد القول الأول، وبه قال أبو حنيفة؛ وقيل إن أراد الله بها فهو يمين، وإن لم يرد الله بها فليست بيمين، وهو مذهب مالك‏.‏ وسبب اختلافهم هو هل المراعى اعتبار صيغة اللفظ أو اعتبار مفهومه بالعادة أو اعتبار النية‏؟‏ فمن اعتبر صيغة اللفظ قال‏:‏ ليست بيمين إذ لم يكن هنالك نطق بمقسوم به؛ ومن اعتبر صيغة اللفظ بالعادة قال‏:‏ هي يمين وفي اللفظ محذوف ولا بد وهو الله تعالى؛ ومن لم يعتبر هذين الأمرين واعتبر النية إذ كان اللفظ صالحا للأمرين فرق في ذلك كما تقدم‏.‏

‏(‏ الجملة الثانية‏)‏ وهذه الجملة تنقسم أولا قسمين‏:‏ القسم الأول‏:‏ النظر في الاستثناء‏.‏ والثاني‏:‏ النظر في الكفارات‏.‏

 القسم الأول‏.‏ وفي هذا القسم فصلان‏:‏ الفصل الأول‏:‏ في شروط الاستثناء المؤثر في اليمين‏.‏ الفصل الثاني‏:‏ في تعريف الأيمان التي يؤثر فيها الاستثناء من التي لا يؤثر‏.‏

 الفصل الأول في شروط الاستثناء المؤثر في اليمين‏.‏

-وأجمعوا على أن الاستثناء بالجملة له تأثير في حل الأيمان واختلفوا في شروط الاستثناء الذي يجب له هذا الحكم بعد أن أجمعوا على أنه إذا اجتمع في الاستثناء ثلاثة شروط أن يكون متناسقا مع اليمين وملفوظا به ومقصودا من أول اليمين أنه لا ينعقد معه اليمين؛ واختلفوا في هذه الثلاثة مواضع، أعني إذا فرق الاستثناء من اليمين أو نواه ولم ينطق به أو حدثت له نية الاستثناء بعد اليمين وإن أتى به متناسقا مع اليمين‏.‏

-‏(‏فأما  المسألة الأولى‏)‏ وهي اشتراط اتصاله بالقسم فإن قوما اشترطوا ذلك فيه، وهو مذهب مالك؛ وقال الشافعي‏:‏ لا بأس بينهما بالسكتة الخفيفة كسكتة الرجل للتذكر أو للتنفس أو لانقطاع الصوت‏.‏ وقال قوم من التابعين يجوز للحالف الاستثناء ما لم يقم من مجلسه؛ وكان ابن عباس يرى أن له الاستثناء أبدا على ما ذكر منه متى ما ذكر، وإنما اتفق الجميع على أن استثناء مشيئة الله في الأمر المحلوف على فعله إن كان فعلا أو على تركه إن كان تركا رافع لليمين، لأن الاستثناء هو رفع للزوم اليمين‏.‏ قال أبو بكر بن المنذر‏:‏ ثبت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث‏"‏ وإنما اختلفوا هل يؤثر في اليمين إذا لم توصل بها أو لا يؤثر‏؟‏ لاختلافهم هل الاستثناء حال للانعقاد أم هو مانع له‏؟‏ فإذا قلنا إنه مانع للانعقاد لا حال له اشترط أن يكون متصلا باليمين، وإذا قلنا إنه حال لم يلزم فيه ذلك‏.‏ والذين اتفقوا على أنه حال اختلفوا هل هو حال بالقرب أو بالبعد على ما حكينا، وقد احتج من رأى أنه حال بالقرب بما رواه سعد عن سماك ابن حرب عن عكرمة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏والله لأغزون قريشا، قالها ثلاث مرات ثم سكت، ثم قال‏:‏ إن شاء الله‏"‏ فدل هذا على أن الاستثناء حال لليمين لا مانع لها من الانعقاد‏.‏ قالوا‏:‏ ومن الدليل على أنه حال بالقرب أنه لو كان حالا بالبعد على ما رواه ابن عباس لكان الاستثناء يغني عن الكفارة والذي قالوه بين‏.‏ وأما اشتراط النطق باللسان فإنه اختلف فيه، فقيل لابد فيه من اشتراط اللفظ أي لفظ كان من ألفاظ الاستثناء وسواء كان بألفاظ الاستثناء أو بتخصيص العموم أو بتقييد المطلق هذا هو المشهور‏.‏ وقيل إنما ينفع الاستثناء بالنية بغير لفظ في حرف إلا فقط‏:‏ أي بما يدل عليه لفظ إلا، وليس ينفع ذلك فيما سواه من الحروف، وهذه التفرقة ضعيفة‏.‏ والسبب في هذا الاختلاف هو هل تلزم العقود اللازمة بالنية فقط دون اللفظ أو باللفظ والنية معا مثل الطلاق والعتق واليمين وغير ذلك‏.‏

-‏(‏وأما  المسألة الثانية‏)‏ وهي هل تنفع النية الحادثة في الاستثناء بعد انقضاء اليمين‏؟‏ فقيل أيضا في المذهب إنها تنفع إذا حدثت متصلة باليمين؛ وقيل بل إذا حدثت قبل أن يتم النطق باليمين؛ وقيل بل الاستثناء على ضربين‏:‏ استثناء من عدد، واستثناء من عموم بتخصيص أو من مطلق بتقييد، فالاستثناء من العدد لا ينفع فيه إلا حدوث النية قبل النطق باليمين؛ والاستثناء من العموم ينفع فيه حدوث النية بعد اليمين إذا وصل الاستثناء نطقا باليمين‏.‏ وسبب اختلافهم هل الاستثناء مانع للعقد أو حال له‏؟‏ فإن قلنا إنه مانع فلا بد من اشتراط حدوث النية في أول اليمين؛ وإن قلنا إنه حال لم يلزم ذلك؛ وقد أنكر عبد الوهاب أن يشترط حدوث النية في أول اليمين للاتفاق وزعم على أن الاستثناء حال لليمين كالكفارة سواء‏.‏

 الفصل الثاني من القسم الأول في تعريف الأيمان التي يؤثر فيها الاستثناء وغيرها‏.‏

-وقد اختلفوا في الأيمان التي يؤثر فيها استثناء مشيئة الله من التي لا يؤثر فيها‏.‏ فقال مالك وأصحابه‏:‏ لا تؤثر المشيئة إلا في الأيمان التي تكفر وهي اليمين بالله عندهم أو النذر المطلق على ما سيأتي‏.‏ وأما الطلاق والعتاق فلا يخلو أن يعلق الاستثناء في ذلك بمجرد الطلاق أو العتق فقط مثل أن يقول‏:‏ هي طالق إن شاء الله أو عتيق إن شاء الله، وهذه ليست عندهم يمينا‏.‏ وإما أن يعلق الطلاق بشرط من الشروط، مثل أن يقول‏:‏ إن كان كذا فهي طالق إن شاء الله، أو إن كان كذا فهو عتيق إن شاء الله‏.‏ فأما القسم الأول فلا خلاف في المذهب أن المشيئة غير مؤثرة فيه‏.‏ وأما القسم الثاني وهو اليمين بالطلاق ففي المذهب فيه قولان أصحهما أنه إذا صرف الاستثناء إلى الشرط الذي علق به الطلاق صح وإن صرفه إلى نفس الطلاق لم يصح‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ الاستثناء يؤثر في ذلك كله سواء قرنه بالقول الذي مخرجه مخرج الشرط، أو بالقول الذي مخرجه مخرج الخبر‏.‏ وسبب الخلاف ما قلناه من أن الاستثناء هل هو حال أو مانع‏؟‏ فإذا قلنا مانع وقرن بلفظ مجرد الطلاق فلا تأثير له فيه إذ قد وقع الطلاق، أعني إذا قال الرجل لزوجته‏:‏ هي طالق إن شاء الله، لأن المانع إنما يقوم لما لم يقع وهو المستقبل؛ وإن قلنا إنه حال للعقود وجب أن يكون له تأثير في الطلاق وإن كان قد وقع، فتأمل هذا فإنه بين؛ ولا معنى لقول المالكية إن الاستثناء في هذا مستحيل لأن الطلاق قد وقع، إلا أن يعتقدوا أن الاستثناء هو مانع لا حال، فتأمل هذا فإنه ظاهر إن شاء الله‏.‏

 القسم الثاني من الجملة الثانية‏.‏

-وهذا القسم فيه فصول ثلاثة قواعد‏.‏ الفصل الأول‏:‏ في موجب الحنث وشروطه وأحكامه‏.‏ الفصل الثاني‏:‏ في رافع الحنث وهي الكفارات‏.‏ الفصل الثالث‏:‏ متى ترفع وكم ترفع‏.‏

 الفصل الأول في موجب الحنث وشروطه وأحكامه‏.‏

-واتفقوا على أن موجب الحنث هو المخالفة لما انعقدت عليه اليمين، وذلك إما فعل ما حلف على ألا يفعله وإما ترك ما حلف على فعله إذا علم أنه قد تراخى عن فعل ما حلف على فعله إلى وقت ليس يمكنه فيه فعله وذلك في اليمين بالترك المطلق، مثل أن يحلف لتأكلن هذا الرغيف فيأكله غيره؛ أو إلى وقت هو غير الوقت الذي اشترط في وجود الفعل عنه، وذلك في الفعل المشترط فعله في زمان محدود، مثل أن يقول‏:‏ والله لأفعلن اليوم كذا وكذا، فإنه إذا انقضى النهار ولم يفعل حنث ضرورة‏.‏ واختلفوا من ذلك في أربعة مواضع‏:‏ أحدها إذا أتى بالمخالف ناسيا أو مكرها‏.‏ والثاني هل يتعلق موجب اليمين بأقل ما ينطلق عليه الاسم أو بجميعه‏.‏ والموضع الثالث هل يتعلق اليمين بالمعنى المساوي لصيغة اللفظ أو بمفهومه المخصص للصيغة والمعمم لها‏.‏ والموضع الرابع هل اليمين على نية الحالف أو المستحلف‏.‏

-‏(‏فأما  المسألة الأولى‏)‏ فإن مالكا يرى الساهي والمكره بمنزلة العامد؛ والشافعي يرى أن لا حنث على الساهي ولا على المكره‏.‏ وسبب اختلافهم معارضة العموم قوله تعالى ‏{‏ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان‏}‏ ولم يفرق بين عامد وناس لعموم قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه‏"‏ فإن هذين العمومين يمكن أن يخصص كل واحد منهما بصاحبه‏.‏

-‏(‏وأما  الموضع الثاني‏)‏ فمثل أن يحلف أن لا يفعل شيئا ففعل بعضه أو أنه يفعل شيئا فلم يفعل بعضه؛ فعند مالك إذا حلف ليأكلن هذا الرغيف فأكل بعضه لا يبرأ إلا بأكله كله، وإذا قال‏:‏ لا آكل هذا الرغيف إنه يحنث إن أكل بعضه؛ وعند الشافعي وأبي حنيفة أنه لا يحنث في الوجهين جميعا حملا على الأخذ بأكثر ما يدل عليه الاسم‏.‏ وأما تفريق مالك بين الفعل والترك فلم يجر في ذلك على أصل واحد لأنه أخذ في الترك بأقل ما يدل عليه الاسم وأخذ في الفعل بجميع ما يدل عليه الاسم، وكأنه ذهب إلى الاحتياط‏.‏

-‏(‏وأما  المسألة الثالثة‏)‏ فمثل أن يحلف على شيء بعينه يفهم منه القصد إلى معنى أعم من ذلك الشيء الذي لفظ به أو أخص، أو يحلف على شيء وينوي به معنى أعم أو أخص، أو يكون للشيء الذي حلف عليه اسمان أحدهما لغوي والآخر عرفي وأحدهما أخص من الآخر‏.‏ وأما إذا حلف على شيء بعينه فإنه لا يحنث عند الشافعي وأبي حنيفة إلا بالمخالفة الواقعة في ذلك الشيء بعينه الذي وقع عليه الحلف وإن كان المفهوم منه معنى أعم أو أخص من قبل الدلالة العرفية‏.‏ وكذلك أيضا فيما أحسب لا يعتبرون النية المخالفة للفظ، وإنما يعتبرون مجرد الألفاظ فقط‏.‏ وأما مالك فإن المشهور من مذهبه أن المعتبر أولا عنده في الأيمان التي لا يقضي على حالفها بموجبها هو النية، فإن عدمت فقرينة الحال فإن عدمت فعرف اللفظ، فإن عدم فدلالة اللغة؛ وقيل لا يراعي إلا النية أو ظاهر اللفظ اللغوي فقط؛ وقيل يراعي النية وبساط الحال ولا يراعي العرف وأما الأيمان التي يقضي بها على صاحبها فإنه إن جاء الحالف مستفتيا كان حكمه حكم اليمين التي لا يقضي بها على صاحبها من مراعاة هذه الأشياء فيها على هذا الترتيب وإن كان مما يقضي بها عليه لم يراع فيها إلا اللفظ إلا أن يشهد لما يدعي من النية المخالفة لظاهر اللفظ قرينة الحال أو العرف‏.‏

-‏(‏وأما  المسألة الرابعة‏)‏ فإنهم اتفقوا على أن اليمين على نية المستحلف في الدعاوي واختلفوا في غير ذلك مثل الأيمان على المواعيد، فقال قوم‏:‏ على نية الحالف‏.‏ وقال قوم‏:‏ على نية المستحلف‏.‏ وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏اليمين على نية المستحلف‏"‏ وقال عليه الصلاة والسلام ‏"‏يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك‏"‏ خرج هذين الحديثين مسلم‏.‏ ومن قال‏:‏ اليمين على نية الحالف‏.‏ فإنما اعتبر المعنى القائم بالنفس من اليمين لا ظاهر اللفظ‏.‏ وفي هذا الباب فروع كثيرة‏.‏ لكن هذه المسائل الأربع هي أصول هذا الباب إذ يكاد أن يكون جميع الاختلاف الواقع في هذا الباب راجعا إلى الاختلاف في هذه‏.‏ وذلك في الأكثر مثل اختلافهم فيمن حلف أن لا يأكل رءوسا فأكل رءوس حيتان هل يحنث أم لا‏؟‏ فمن راعى العرف قال‏:‏ لا يحنث؛ ومن راعى دلالة اللغة قال‏:‏ يحنث‏.‏ ومثل اختلافهم فيمن حلف أن لا يأكل لحما فأكل شحما؛ فمن اعتبر دلالة اللفظ الحقيقي قال‏:‏ لا يحنث؛ ومن رأى أن اسم الشيء قد ينطلق على ما يتولد منه قال‏:‏ يحنث‏.‏

وبالجملة فاختلافهم في المسائل الفروعية التي في هذا الباب هي راجعة إلى اختلافهم في هذه المسائل التي ذكرنا، وراجعة إلى اختلافهم في دلالات الألفاظ التي يحلف بها، وذلك أن منها ما هي مجملة، ومنها ما هي ظاهرة، ومنها ما هي نصوص‏.‏

 الفصل الثاني في رافع الحنث‏.‏

-واتفقوا على أن الكفارة في الأيمان هي الأربعة الأنواع التي ذكر الله في كتابه في قوله تعالى ‏{‏فكفارته‏}‏ الآية‏.‏ وجمهورهم على أن الحالف إذا حنث مخير بين الثلاثة منها‏:‏ أعني الإطعام أو الكسوة أو العتق، وأنه لا يجوز له الصيام إلا إذا عجز عن هذه الثلاثة لقوله تعالى ‏{‏فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام‏}‏ إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان إذا غلظ اليمين أعتق أو كسا، وإذا لم يغلظها أطعم‏.‏ واختلفوا من ذلك في سبع مسائل مشهورة‏:‏ المسألة الأولى‏:‏ في مقدار الإطعام لكل واحد من العشرة مساكين‏.‏ الثانية‏:‏ في جنس الكسوة إذا اختار الكسوة وعددها‏.‏ الثالثة‏:‏ في اشتراط التتابع في صيام الثلاثة الأيام أو لا إشتراطه‏.‏ الرابعة‏:‏ في اشتراط العدد في المساكين‏.‏ الخامسة‏:‏ في اشتراط الإسلام فيهم والحرية‏.‏ والسادسة‏:‏ في اشتراط السلامة في الرقبة المعتقة من العيوب‏.‏ السابعة‏:‏ في اشتراط الإيمان فيها‏.‏

-‏(‏ المسألة الأولى‏)‏ أما مقدار الإطعام‏؟‏ فقال مالك والشافعي وأهل المدينة‏:‏ يعطى لكل مسكين مد من حنطة بمد النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن مالكا قال‏:‏ المد خاص بأهل المدينة فقط لضيق معايشهم‏.‏ وأما سائر المدن فيعطون الوسط من نفقتهم‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ يجري المد في كل مدينة مثل قول الشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يعطيهم نصف صاع من حنطة، أو صاعا من شعير أو تمر، قال‏:‏ فإن غداهم وعشاهم أجزأه‏.‏ والسبب في اختلافهم في ذلك اختلافهم في تأويل قوله تعالى ‏{‏من أوسط ما تطعمون أهليكم‏}‏ هل المراد بذلك أكلة واحدة أو قوت اليوم وهو غذاء وعشاء‏؟‏ فمن قال أكلة واحدة قال‏:‏ المد وسط في الشبع؛ ومن قال غداء وعشاء قال‏:‏ نصف صاع‏.‏ ولاختلافهم أيضا سبب آخر، وهو تردد هذه الكفارة بين كفارة الفطر متعمدا في رمضان وبين كفارة الأذى؛ فمن شبهها بكفارة الفطر قال‏:‏ مد واحد، ومن شبهها بكفارة الأذى قالا‏:‏ نصف صاع‏.‏ واختلفوا هل يكون مع الخبز في ذلك إدام أم لا‏؟‏ وإن كان فما هو الوسط فيه‏؟‏ فقيل يجزي الخبز قفارا؛ وقال ابن حبيب‏:‏ لا يجزي؛ وقيل الوسط من الإدام الزيت؛ وقيل اللبن والسمن والتمر‏.‏ واختلف أصحاب مالك من الأهل الذين أضاف إليهم الوسط من الطعام في قوله تعالى ‏{‏من أوسط ما تطعمون أهليكم‏}‏ فقيل أهل المكفر وعلى هذا إنما يخرج الوسط من الشيء الذي منه يعيش إن قطنية فقطنية وإن حنطة فحنطة، وقيل بل هم أهل البلد الذي هو فيه، وعلى هذا فالمعتبر في اللازم له هو الوسط من عيش أهل البلد لا من عيشه‏:‏ أعني الغالب، وعلى هذين القولين يحمل قدر الوسط من الإطعام، أعني الوسط من قدر ما يطعم أهله، أو الوسط من قدر ما يطعم أهل البلد أهليهم إلا في المدينة خاصة‏.‏

-‏(‏وأما  المسألة الثانية‏)‏ وهي المجزئ من الكسوة‏.‏ فإن مالكا رأى أن الواجب في ذلك هو أن يكسي ما يجزئ فيه الصلاة، فإن كسا الرجل كسا ثوبا وإن كسا النساء كسا ثوبين درعا وخمارا‏.‏ وقال الشافعي وأبو حنيفة‏:‏ يجزئ في ذلك أقل ما ينطلق عليه الاسم إزار أو قميص أو سراويل أو عمامة، وقال أبو يوسف‏:‏ لا تجزئ العمامة ولا السراويل‏.‏ وسبب اختلافهم هل الواجب الأخذ بأقل دلالة الاسم اللغوي أو المعنى الشرعي‏.‏

-‏(‏وأما  المسألة الثالثة‏)‏ وهي اختلافهم في اشتراط تتابع الأيام الثلاثة في الصيام فإن مالكا والشافعي لم يشترطا في ذلك وجوب التتابع وإن كانا استحباه واشترط ذلك أبو حنيفة‏.‏ وسبب اختلافهم في ذلك شيئان‏:‏ أحدهما هل يجوز العمل بالقراءة التي ليست في المصحف، وذلك أن في قراءة عبد الله بن مسعود ‏{‏فصيام ثلاثة أيام متتابعات‏}‏ ‏.‏ والسبب الثاني اختلافهم هل يحمل الأمر بمطلق الصوم على التتابع أم ليس يحمل إذا كان الأصل الواجب بالشرع إنما هو التتابع‏.‏

-‏(‏وأما  المسألة الرابعة‏)‏ وهي اشتراط العدد في المساكين، فإن مالكا والشافعي قالا‏:‏ لا يجزيه إلا أن يطعم عشرة مساكين؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ إن أطعم مسكينا واحدا عشرة أيام أجزأه‏.‏ والسبب في اختلافهم هل الكفارة حق واجب للعدد المذكور أو حق واجب على المكفر فقدر بالعدد المذكور، فإن قلنا إنه حق واجب للعدد كالوصية، فلابد من اشتراط العدد، وإن قلنا حق واجب على المكفر لكنه قدر بالعدد أجزأ من ذلك إطعام مسكين واحد على عدد المذكورين والمسألة محتملة‏.‏

-‏(‏وأما  المسألة الخامسة‏)‏ وهي اشتراط الإسلام والحرية في المساكين، فإن مالكا والشافعي اشترطاهما ولم يشترط ذلك أبو حنيفة‏.‏ وسبب اختلافهم هل استيجاب الصدقة هو بالفقر فقط‏؟‏ أو بالإسلام‏؟‏ إذ كان السمع قد أنبأ أنه يثاب بالصدقة على الفقير الغير المسلم، فمن شبه الكفارة بالزكاة الواجبة للمسلمين اشترط الإسلام في المساكين الذين تجب لهم هذه الكفارة؛ ومن شبهها بالصدقات التي تكون عن تطوع أجاز أن يكونوا غير مسلمين‏.‏ وأما سبب اختلافهم في العبيد فهو هل يتصور فيهم وجود الفقر أم لا إذا كانوا مكفيين من ساداتهم في غالب الأحوال، أو ممن يجب أن يكفوا‏؟‏ فمن راعى وجود الفقر فقط قال العبيد والأحرار سواء، إذ قد يوجد من العبيد من يجوعه سيده؛ ومن راعى وجوب الحق له على الغير بالحكم قال‏:‏ يجب على السيد القيام بهم، ويقتضي بذلك عليه وإن كان معسرا قضى عليه ببيعه، فليس يحتاجون إلى المعونة بالكفارات وما جرى مجراها من الصدقات‏.‏

-‏(‏وأما  المسألة السادسة‏)‏ وهي هل من شرط الرقبة أن تكون سليمة من العيوب‏؟‏ فإن فقهاء الأمصار شرطوا ذلك، أعني العيوب المؤثرة في الأثمان، وقال أهل الظاهر‏:‏ ليس ذلك من شرطها‏.‏ وسبب اختلافهم هل الواجب الأخذ بأقل ما يدل عليه الاسم أو بأتم ما يدل عليه‏.‏

-‏(‏وأما  المسألة السابعة‏)‏ وهي اشتراط الأيمان في الرقبة أيضا، فإن مالكا والشافعي اشترطا ذلك؛ وأجاز أبو حنيفة أن تكون الرقبة غير مؤمنة‏.‏ وسبب اختلافهم هو هل يحمل المطلق على المقيد في الأشياء التي تتفق في الأحكام وتختلف في الأسباب كحكم حال هذه الكفارات مع كفارة الظهار؛ فمن قال يحمل المطلق على المقيد في ذلك قال باشتراط الإيمان في ذلك حملا على اشتراط ذلك في كفارة الظهار في قوله تعالى ‏{‏فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ ومن قال لا يحمل وجب عنده أن يبقى موجب اللفظ على إطلاقه‏.‏

 الفصل الثالث متى ترفع الكفارة الحنث، وكم ترفع‏؟‏

-وأما متى ترفع الكفارة الحنث وتمحوه، فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال الشافعي‏:‏ إذا كفر بعد الحنث أو قبله فقد ارتفع الإثم؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يرتفع الحنث إلا بالتفكير الذي يكون بعد الحنث لا قبله؛ وروي عن مالك في ذلك القولان جميعا‏.‏ وسبب اختلافهم شيئان‏:‏ أحدهما اختلاف الرواية في قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه‏"‏ فإن قوما رووه هكذا، وقوم رووه ‏"‏فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير‏"‏ وظاهر هذه الرواية أن الكفارة تجوز قبل الحنث، وظاهر الثانية أنها بعد الحنث‏.‏ والسبب الثاني اختلافهم في هل يجزئ تقديم الحق الواجب قبل وقت وجوبه، لأنه من الظاهر أن الكفارة إنما تجب بعد الحنث كالزكاة بعد الحول ولقائل أن يقول إن الكفارة إنما تجب بإرادة الحنث والعزم عليه كالحال في كفارة الظهار فلا يدخله الخلاف من هذه الجهة، وكان سبب الخلاف من طريق المعنى هو هل الكفارة رافعة للحنث إذا وقع أو مانعة له‏؟‏ فمن قال مانعة أجاز تقديمها على الحنث؛ ومن قال رافعة لم يجزها إلا بعد وقوعه‏.‏ وأما تعدد الكفارات بتعدد الأيمان فإنهم اتفقوا فيما علمت أن من حلف على أمور شتى بيمين واحدة أن كفارته كفارة يمين واحدة، وكذلك فيما أحسب لا خلاف بينهم أنه إذا حلف بأيمان شتى على شيء واحد أن الكفارات الواجبة في ذلك بعدد الأيمان كالحالف إذا حلف بأيمان شتى على أشياء شتى‏.‏ اختلفوا إذا حلف على شيء واحد بعينه مرار كثيرة، فقال قوم‏:‏ في ذلك كفارة يمين واحدة، وقال قوم‏:‏ في كل يمين كفارة إلا أن يريد التأكيد، وهو قول مالك؛ وقال قوم‏:‏ فيها كفارة واحدة، إلا أن يريد التغليظ‏.‏ وسبب اختلافهم هل الموجب للتعدد هو تعدد الأيمان بالجنس أو بالعدد، فمن قال‏:‏ اختلافها بالعدد قال لكل يمين كفارة إذا كرر ومن قال اختلافها بالجنس قال‏:‏ في هذه المسألة يمين واحدة‏.‏ واختلفوا إذا حلف في يمين واحدة بأكثر من صفتين من صفات الله تعالى هل تعدد الكفارات بتعدد الصفات التي تضمنت اليمين أم في ذلك كفارة واحدة‏؟‏ فقال مالك‏:‏ الكفارة في هذه اليمين متعددة بتعدد الصفات‏.‏

فمن حلف بالسميع العليم الحكيم كان عليه ثلاث كفارات عنده، وقال قوم‏:‏ إن أراد الكلام الأول وجاء بذلك على أنه قول واحد فكفارة واحدة إذا كانت يمينا واحدة‏.‏ والسبب في اختلافهم‏:‏ هل مراعاة الواحدة أو الكثرة في اليمين هو راجع إلى صيغة القول أو إلى تعدد الأشياء التي يشتمل عليها القول الذي مخرجه مخرج يمين، فمن اعتبر الصيغة قال كفارة واحدة؛ ومن اعتبر عدد ما تضمنته صيغة القول من الأشياء التي يمكن أن يقسم بكل واحد منها على انفراده قال‏:‏ الكفارة متعددة بتعددها، وهذا القدر كاف في قواعد هذا الكتاب وسبب الاختلاف في ذلك، والله المعين برحمته‏.‏